الجمعة، 16 يناير 2015

مخترع الكاميرا - قصة نجاح شركة كوداك



عند الحديث عن الكاميرات، فلا بد من ذكر الحسن بن الهيثم، الذي دخل السجن / الحبس / الإقامة الجبرية في زمن الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي، لأكثر من 10-12 سنة، وهناك واصل دراسته لسلوك الضوء وانعكاسه، ولاحظ في سجنه مرور الضوء من ثقب في باب الزنزانة، ساقطا على الجدار المقابل راسما صورة غير واضحة، بالتدقيق فيها وجدها صورة الأجسام الموجودة خارج باب زنزانته المظلمة.



هذا الاكتشاف سجله الحسن بدقة ودرسه وبحثه ونقحه، ووضعه في كتاب سماه المناظر، أوضح فيه أنه وجد أن الحجرة المظلمة ذات الفتحة الدائرية مثل القمر (القمرة) تعكس داخلها الصورة التي أمامها، وكلما ضاقت هذه الفتحة / القمرة، زادت دقة الصورة المعروضة داخلها، هذا الاكتشاف مهد الطريق لاختراع الكاميرا كما نعرفها اليوم.


قصة الحسن بن الهيثم لهي قصة نجاح في حد ذاتها، فلم يوقفه السجن عن تحقيق هدفه في دراسة علم البصريات والخروج منه بالجديد والمفيد، ولم يتقبل علوم من قبله دون نقد وبحث، ولم يخش المجيء بنظريات تعارض من قبله، وأثبتها بالحقائق العلمية. بعد هذه المقدمة الجميلة، ندلف معا إلى قصة جورج إيستمان.

أبصرت عيناه النور في 12 يوليو 1854 في قرية ووترفيل، القريبة من مدينة نيويورك الأمريكية، ليكون جورج الابن الثالث لأب ناجح بشكل مقبول في عالم التجارة، صاحب دار حضانة أطفال. وعندما بلغ جورج الخامسة من عمره، باع أبوه دار الحضانة وانتقل بعائلته إلى خارج مدينة روشستر حيث افتتح كلية إيستمان التجارية، ولكن بعدها بعامين توفى والده، وبرحيله بلغت الكلية نهايتها وأغلقت أبوابها.


بعد موته، وجدت العائلة نفسها على حافة الإفلاس، واضطرت الأم لتأجير غرف من البيت للنزلاء والمسافرين، وأدرك الصغير حقيقة الحالة المالية للأسرة، ولم يرض أبدأ عن قيام أمه بالتنظيف والطهي للنزلاء الغرباء، وقرر أن يفعل شيئا ليغني أمه عن كل ذلك. لم يبل جورج جيدا في المدرسة، وحكم القائمون عليها بأنه ليس موهوبا بما يكفي للتعلم، ولذا لم يتردد كثيرا في هجران مقاعد الدراسة والتقدم لشغل وظيفة مرسال في شركة تأمين، مقابل ثلاثة دولارات في الأسبوع.


بعدها انتقل جورج إلى شركة تأمين أخرى وظفته مقابل خمسة دولارات في الأسبوع ومقابل مهام أكثر أهمية. لم تكن هذه الدولارات بالثروة الكبيرة، لكنها كانت تكفي لتساهم في مصاريف ونفقات أسرته، ولذا اجتهد ليدرس في المساء قواعد المحاسبة أملا في العثور على وظيفة أفضل. في هذه الأثناء، خسر جورج أخته كاتي التي توفت عن عمر 16 ربيعا، بعد معاناة مع مرض شلل الأطفال. 





بعد مرور خمس سنوات على عمله في شركة التأمين، حصل جورج على وظيفة كاتب حسابات في بنك روشستر، مع راتب قدره 15 دولار في الأسبوع، وهنا حين بدأ جورج يفكر في أنه يستحق أخذ فترة إجازة من العمل، وكان يريد زيارة العاصمة سانتو دومينجو (تقع في الدومينيكان ضمن جزر الكاريبي) ثم اقترح عليه زميله في العمل أن يوثق رحلته هذه بالصور الفوتوغرافية. هذه النصيحة قلبت خطة جورج رأسا على عقب، إذ اقتنع بها، وبدأ يشتري ما يلزم للتصوير الفوتوغرافي في زمنه: صندوق كبير، حامل معدني ضخم ثلاثي الأرجل، حامل ألواح كبير، خيمة سوداء صغيرة، وعاء لوضع الماء لعمل حمام نترات.



ليعرف كيف يستخدم هذه الأشياء الكثيرة،  اضطر جورج لنقد مصور محترف 5 دولارات ليعلمه كيف تعمل هذه الأشياء.

بعدما تعلم جورج كيف يلتقط الصور وكيف يطبعها ويظهرها، أيقن في قرارة نفسه أنه هناك حتما طريقة أسهل لالتقاط الصور، ولذا أنطلق ليعثر عليها! الطريف أن جورج لم يذهب في رحلته بعد كل هذه المشتريات، لكنه تحول هاويا شغوفا، عاقد العزم على تبسيط عملية التصوير الفوتوغرافي. في النهار كان جورج رجلا مصرفيا، وفي الليل هاوي تصوير فوتوغرافي، يقرأ ويطالع كل ما يقع تحت يديه من كتب تتحدث عن الفوتوغرافيا.

من ضمن ما قرأه جورج كانت مقالة عن طريقة تصوير سهلة يستعملها المصورون في إنجلترا، اعتمدت على التصوير الجاف، في حين كان التصوير في أمريكا قائما على الألواح المبللة. كانت الطريقة الانجليزية أسهل وأسرع من تلك الأمريكية، ولذا أضاء مصباح الأفكار العبقرية لدى جورج وعكف على مر أيام طويلة وليال كثيرة، في تجربة تركيبات كيماوية كثيرة، تحقق له التصوير الفوتوغرافي باستخدام الألواح الجافة، في كنف مطبخ بيته، حتى أنه كثيرا ما كان ينام على أرضية المطبخ من شدة التعب والإرهاق.

بعد مجهود شاق استمر على مدى ثلاث سنوات، توصل جورج إلى تركيبة كيماوية حققت له ما أراد، وكذلك إلى ماكينة تصنع له هذه الألواح الجافة بكميات كبيرة. بدأ جورج يفكر كيف يمكنه استغلال اكتشافه هذا على نطاق تجاري، حتى جاء يوم رفض البنك الذي يعمل فيه جورج ترقيته كما كان يستحق، ولذا سارع بتقديم استقالته واستأجر طابقا بأكمله في مبنى ليكون مقر شركته الجديدة، وهناك حيث بدأ في تصنيع ألواحه الجافة.

 لم تكن البداية وردية، إذ اشتكي الكثيرون من فساد تلك الألواح الجافة وعدم عملها وفق المتوقع منها، الأمر الذي اضطر معه جورج إلى استبدالها أو إعادة ثمنها. كانت هذه الخطوة مكلفة للغاية، لكنها أثبتت أنها استثمار جيد، إذ أن هذه الخطوة ساهمت في بناء الاسم التجاري الشهير لشركته والسمعة الطيبة.



عد هذه البداية الصعبة، بدأت الأمور تسير كما المراد لها، حتى جاء عام 1880 وقد أصبح قوام الشركة 6 موظفين بالإضافة إلى جورج، أنتجوا أكثر من 4 آلاف لوح تصوير جاف في السنة. كانت عوائد الشركة تأتي من تظهير الصور الملتقطة على الألواح الجافة التي يبيعها جورج (أو ما اصطلح على تسميته الأفلام فيما بعد).

مع هذا النجاح جاء المنافسون واستعرت المنافسة، الأمر الذي دفع جورج للتفكير في تقديم المزيد من الجديد، وكان باكورة أفكاره هذه أول كاميرا تصوير من إنتاج شركته في عام 1888 واختار لها اسم كوداك.



كان جورج أول من فكر في لف الأفلام بشكل دائري حول عامود يسمح للفيلم بالحركة الانسيابية. (ليس هناك قصة وراء اختيار اسم كوداك، فهو قرار جاء في لحظة صفاء نفسي، من رجل يحب حرف K، وأراد اختيار اسم يبدأ وينتهي بهذا الحرف!).

كانت الكاميرا صغيرة الحجم بمعايير تلك الأيام، تكفي لالتقاط 100 صورة، وكانت نقلة نوعية في عالم التصوير الفوتوغرافي، وبيع منها أكثر من 73 ألف وحدة على الرغم من سعر بيعها الباهظ – 25 دولار أمريكي!

كانت آلية العمل أن يشتري العميل الكاميرا، ثم يلتقط ما حلا له من صور، ثم يعيدها إلى جورج لكي يظهر ويطبع له هذه الصور، ومعها الكاميرا وبداخلها فيلم جديد لاستعمالها مرة أخرى. مضت الأمور على ما يرام حتى مقدم عام 1893 والذي شهد انتكاسة للاقتصاد الأمريكي، كما رحل أفضل خبير كيمائي لدى جورج لكي يؤسس شركته الخاصة به، لكن جورج تمكن من العثور على بديل له أفضل منه، ساعده على اختراع فيلم تصوير فوتوغرافي أفضل ساعد الشركة على الاستمرار في العمل.

كان التصوير الفوتوغرافي وقتها حديث عهد بعامة الناس، لكن كوداك أنفقت بسخاء في مجال الإعلانات لنشر هذا الأمر الجديد، وكانت أشهر دعايات كوداك: أنت اضغط الزر، واترك البقية علينا أو  You press the button, we do the rest. بعدها
أطلقت الشركة كاميرا صغيرة موجهة للصغار أسمتها براوني، سعرها دولار واحد، وبدأت الشركة تدخل معترك صناعة التصوير السينمائي، واستمرت تعزف معزوفة الأرباح.

للأسف الشديد، لم تمض حياة جورج ناجحة، فرغم أنه اشتهر بالأعمال الخيرية الكثيرة والتبرعات السخية، إلا أنه تقاعد في عام 1925 من إدارة شركته، وسقط فريسة لمرض عضال في عموده الفقري، منعه من الحركة ومن السير، الأمر الذي نال منه بشدة، جعله ينهي حياته وعمره 77 سنة برصاصة أطلقها على قلبه، تاركا رسالة انتحار مفادها: لقد انتهى عملي فلمَ الانتظار.


على الجانب:
طبعا الانتحار وسيلة من وسائل الهروب من المشاكل، مرفوضة في الدين، لا تأتي بأي خير. ذكري لها هنا لأنها حقيقة في قصة الرجل، لكنها كذلك سقطة لا تقلل من كفاحه ونجاحه، ولعل مرضه الأخير نال من عقله فجعله يقدم على خطوة بائسة مثل هذه!




بقلم رؤوف شبابيك

هناك 6 تعليقات: